العسل عبر القرون
عرف الإنسان العسل منذ أن كان يعيش في المغاور. وعبّر الإنسان القديم عن أهمية العسل بالأقاصيص والغناء قبل أن يعرف الكتابة. وظل العسل آلافاً من السنين الحلو الصافي الوحيد بالنسبة للبشر، وكان له مكانة مرموقة عند معظم شعوب العالم القديم، حيث استخدم كنوع من القرابين المفضلة في الطقوس الدينية. كما تدل الوثائق التاريخية على أن العسل قد استخدمته معظم هذه الشعوب لغايات علاجية بحته.
لقد كانت جميع شعوب الشرق الأوسط تعمل على تخزين العسل بكميات كبيرة لاعتقادهم بالخلود حين استعمالهم له ، وكانوا يعتبرونه رمزاً لطهارة الروح. وقد كشفت الحفريات في قبور الفراعنة خبايا العسل، وكانت مغطاة ومحتفظة بطعمها، وذات رائحة عطرة كاليوم الذي وضعت فيه مع الملك الميت آنذاك. وكانت العادة عند قدماء المصريين أن يقدّم العريس لعروسه أثناء الزفاف ما يعادل "رطلاً إنكليزيا" من العسل كعربون على حبه ووفائه لها.
وفي أقدم وثيقة وجدت على أوراق البردي تعود إلى 3500 سنة خلت وجد كتاب تحضير الأدوية لكل أمراض الجسم وفيه كثير من الوصفات كان فيها العسل المادة الرئيسية وذكروا أن العسل يساعد على شفاء الجروح ومعالجة أمراض المعدة والأمعاء والكلى، وطبقوه على شكل مراهم في علاج أمراض العين. وفي عسر التبول وصفت حبوب باسم "خا" يدخل فيها العسل أيضاً، وفي وثيقة فرعونية أخرى قرأها إيدفين سميث وجدت معلومات عن تطبيق الضمادات العسلية بعد العمليات الجراحية.
وفي الشرق الأقصى وعند براهمة البنغال كانت العروس تدهن بالعسل ولا سيما ثدييها وفرجها لاعتقادهم بأنها ستصبح أكثر إخصاباً. وقد جاءت وثائق من الصين تشير إلى أن أطباءهم كان يعالجون المصابين بالجدري بطلي أجسامهم بالعسل لما رأوه من سرعة شفائهم به، وأنه يمنع حصول الندب المعيبة التي يخلفها هذا الداء الوبيل، كما نقل عنهم معرفتهم بخواص العسل الحافظة والمغذية للبشرة والمبيضة لها أيضاً حيث كانوا يمزجونه مع شمع العسل.
والهنود القدامى نسبوا للعسل من المزايا الشفائية والمقوية وكانوا يكتحلون بالعسل لمعالجة أمراض العين وخاصة الساد، وفي كتاب الحياة Ayur vedaوقوانين مانو شرح عن أكسير الحياة لإطالة العمر، وأنه مكوّن من اللبن والعسل.
واعتقد الإغريق من أتباع المذهب الروحي بأن العسل يطيل العمر، وإن فيثاغورس وديموقراطوس فكرا بإطالة عمريهما بجعل العسل جزءاً من غذائهما اليومي. وقد اعتاد مصارعوا الإغريق تناول العسل وخصوصاً قبل تمارينهم الرياضية وأشارت أساطير اليونان بالعسل المحضّر من قبل صيادلة ذلك العصر –النحلات- ووصفته بأنه الندى الذي تقطره نجوم السماء وأقواس قزح، والذي ينحدر إلينا بواسطة الأزهار. وكان شاعرهم هوميروس يتغنى بالعسل وبخصائصه الممتازة في ملحمته الخالدة الإلياذة والأوديسة.
كما أن بيفاغور أبرز في أشعاره خواص العسل الدوائية المعروفة حينذاك.
وكان الفيلسوف اليوناني أرسطاطاليس خبيراً بالطب وقد مدح بإطناب رجل النحل المسمر، وبيّن أن العسل يملك خواص ذاتية فريدة من نوعها وأنه يقوي الصحة ويطيل العمر. كما أن أبو قراط يعتمد على العسل في غذائه الخاص ويعالج به كثيراً من الأمراض كالجروح والإلتهابات البلعومية، وله شراب محضر من العسل يصفه كمهدئ للسعال وماص للرطوبة.
أما المؤرخ بليني صاحب كتاب "التاريخ الطبيعي" فقد أشار إلى الخواص الشفائية الممتازة للعسل في معالجة الجروح وتقرحات الفم، وذكره العالم الإغريقي "ديوسكوريدوس" كعلاج ناجح في أمراض الجهاز الهضمي ولمعالجة الجروح المتقيحة والبواسير، كما أشار الطبيب كلافدي غالن بشكل خاص في قروح الفم وكان يعالج الجروح بعجينة مكونة من العسل والطحين. كما كان يصف العسل لمعالجة حالات التسمم ولآفات جهاز الهضم.
وفي عهد الإمبراطورية الرومانية كان العسل الغذاء الاعتيادي لكل روماني وكان رمزاً في أعيادهم واحتفالاتهم الدينية.
ونظراً لارتفاع قيمته في نظرهم فقد قبلوا أخذه كبديل ممتاز عن الضرائب المتوجب دفعها. وكان نبلاء الرومان يفاخرون بامتلاكهم خلايا النحل، ويعتبرون تقديم العسل للضيف من كوارة المضيف الخاصة نوعاً من إكرامه والاحتفاء به. كما كانوا يصطحبون مناحلهم في معاركهم ضد أعدائهم إذ كانوا يطلقونها في ساحات الحرب لتصبح سلاحاً قاتلاً للأعداء.
أما الشاعر الروماني أوفيد فقد أيد آراء بيفاغور واضعاً العسل في رأس قائمة المواد الضرورية لتغذية الإنسان.
وفي فلندا مازالت معروفة تلك العادة وهي دهن شفاه العروس بالعسل ليلة زفافها حفظاً على مودتها، وعند الطليان مثل شعبي يقول: "سيدتي! عاجلي زوجك بالعسل فإنك ستحكمين قلبه وتحافظين على مودته، سيدي! عامل زوجتك وكأنكما في شهر العسل واعلم أن السعادة ستخيم دائماً على منزلك..".
ولقد كان العبرانيون يعتقدون بأن العسل يجعل الناس مهرة وأذكياء.
وما زال اليهود حتى أيامنا هذه يصنعون الأطعمة الخاصة بالأعياد من العسل، وفي سفر التكوين من التكوين من التوراة جاء ذكر العسل عندما أرسل يعقوب ابنه بنيامين إلى مصر مع أعطية فيها أحسن فواكه الأرض مع العسل، وجاء فيه وصية لنبي الله سليمان عليه السلام [12] عن أبيه داود قوله: تناول العسل يا بني فإنه جيد، وإن أقراص العسل لذيذة المذاق.
وفي القرن السادس استخدم الكسندر ترايسكي العسل بكثرة لمعالجة أمراض الكبد والكليتين والجهاز التنفسي. وفي الطب الشعبي الروسي عولج بالعسل الكثير من الحالات المرضية. وقد ورد في المخطوطات الروسية القديمة وصف مسهب لخواص العسل العلاجية وعلى الخصوص لمعالجة الالتهابات الصدرية والسل الرئوي وأمراض الهضم. كما وردت وصفات لمراهم يدخل فيه العسل لمعالجة الجروح المتعفنة وعدد من الآفات الجلدية.
وللعسل عند المسلمين نظرة خاصة ومكانة جلّى كطعام له نوع من القدسية في نفوسهم، ولقد بلغ من ترغيب القرآن الكريم فيه أن جعله شراب أهل الجنة. وهذا مصداق قوله تعالى في وصف ما أعده سبحانه وتعالى لعباده المتقين: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً }محمد: من الآية15 وحينما ترد ذكر الأطعمة والأشربة في السنة النبوية المطهرة فإنه لمما يلفت النظر حقاً إعجاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا النوع من الغذاء الممتاز، ودعوته مراراً للاستشفاء به. فقد روى مسلم في صحيحه أن عائشة عليه السلامقالت: أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل.
إلا أن أول وآكد نص تاريخي يثبت الخواص الشفائية للعسل هي الآية المنزلة في سورة النحل، وهي قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ... يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}النحل: من الآية:68-69.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً به وتصديقاً لما أنزل الله في كتابه أصرّ على كثير ممن راجعه من الصحابة يسألونه الدواء أن يتداووا بالعسل، وحذا حذوه العديد من الصاحبة ثم الكثير من أطباء المسلمين حيث طبقوا العسل على نطاق واسع.
وفي كتاب القانون في الطب لابن سينا عشرات الوصفات التي يدخل فيها العسل. فقد كان يصف مزيجه مع شراب الورد لمعالجة السل الرئوي، ويصف محاليله الدافئة لمعالجة الأرق،كأوضح فعله المشغف للقرنية لمعالجة كثافاتها المختلفة المنشأ، وكان يصف العسل فيقول: "العسل يقوي الروح، ويزيد النشاط، ويحرك الشهية، ويحفظ الشباب، ويؤدي إلى انطلاق اللسان" ويصف الموفق البغدادي العسل بأنه" يدفع الفضلات من الأمعاء، ويشد المعدة،وينقي الكبد، ويدر البول، وينقي الصدر، وينفع أصحاب البلغم، والأمزجة الباردة والسعال الكائن من البلغم".
ما من شك في أن النصوص القرآنية التي وردت في العسل ومن بعدها الأحاديث النبوية الصحيحة هي أوضح وأرسخ النصوص القديمة على الإطلاق، كما أنها تعتبر من أوائل النصوص التي جزمت بالفوائد العلاجية الثابتة لهذه المادة القيمة. قال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل... يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} النحل.
وقد شرحنا هذه الآية بإسهاب في فصل "النحل في القرآن".
وقال تعالى واصفاً ما أعده لعباده المتقين في جنة الخلد: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} محمد: من الآية15.
عن جابر بن عبد الله عليه السلامقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن كان في شيء من أدويتكم من خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي [1] .
وعن ابن عباس عليه السلامأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشفاء في ثلاثة: شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار وأنهي أمتي عن الكي. [2]
قال الحافظ ابن حجر: ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الحصر في ثلاثة فإن الشفاء قد يكون في غيرها.
وعن ابن مسعود عليه السلامقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن. [3]
وعن أبي سعيد الخدري عليه السلامقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسقه عسل فسقاه ثم جاءه فقال: إني سقيته عسلاً فلم يزده إلا استطلاقاً، فقال: ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة. فقال: اسقه عسلاً. فقال: لقد سقيته عسلاً فلم يزده إلا استطلاقاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسل فسقاه فبرئ [4] وفي رواية: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي عرب بطنه فقال: اسقه عسلاً... ثم ذكر نحوه ومعناه. [5]
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : صدق الله وكذب بطن أخيك يقول العلامة الزرقاني: [6] "معناه أخطأ بطن أخيك حيث لم يصلح لقبول الشفاء بسرعة لكثرة المادة الفاسدة فيه، ولذا أمره صلى الله عليه وسلم بمعاودة شرب العسل لاستفراغها، فلما كرر ذلك برئ".
وقال الفخر الرازي: "لعله صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال كان هذا جارياً مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ".
وقد علق الطبيب الكحال [7] على الحديث فقال: "إن إسهال ذلك الرجل كان من تخمة أصابته، وقد جاء في بعض طرق الحديث إن أخي عرب بطنه ومعناه فسد هضمه، واعتلت معدته، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بشرب العسل لدفع الفضول المجتمعة. وهذا العلاج من أحسن ما عولج به هذا المرض، لا سيما إذا مزج العسل بالماء الحار، لأن الأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت مادامت القوة باقية".
ويرى الدكتور النسيمي:" [8] أن الإسهال الحاد الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل كما يحتمل أن يكون ناتجاً عن تخمة، فإنه يحتمل أن يكون ناتجاً عن عفونة معوية، وأن للوصفة النبوية هذه ميزات ثلاثة:
الأولى: المعالجة المثلية بمعالجة الإسهال بمسل، وذلك لدفع الفضلات ومحتوى الأمعاء الفاسدة والإنسمام الغذائي من التخمة أو طرد المحتوى المتعفن بتكاثر الجراثيم.
الثانية: اختيار العسل وهو ملين على المسهلات الشديدة التي تخرّش الأمعاء، وأكثر الدوائيين اليوم إذا رغبوا بإعطاء مسهل في حوادث الإسهال غير الطفيلية المنشأ، فإنهم يفضلون المليّن.
الثالثة: اختيار العسل من بين الملينات لأن في العسل مواد مطهرة تثبط نمو الجراثيم وتقتل بعض أنواعها./ هـ
وعن أبي سعيد الخدري "أن ملاعب الأسنة بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الدواء من وجع بطن أخ له، فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم عكة عسل فسقاه فبرئ". [9]
وعن عامر بن مالك قال: "بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من وعك ألمّ بي ألتمس منه دواء أو شفاءً، فبعث إلى بعكة من عسل". [10]
تعليقات
إرسال تعليق