النحل في القرآن
النحل في القرآن
قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} النحل:68-69.
قوله تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل}: قال القرطبي: "قد مضى القول في الوحي وأنه قد يكون بمعنى الإلهام، وهو ما يخلقه الله تعالى في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر، وهو من قوله تعالى: {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}. ومن ذلك البهائم وما يخلق الله سبحانه فيها من إدراك منافعها واجتناب مضارها وتدبير معاشها".
وقال الفخر الرازي: "والمراد من الإلهام أنه تعالى قرر في نفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وبيانه من وجود أنها تبني البيوت السداسية من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل المسطرة والفرجار. ثم إنه ثبت في الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بين تلك البيوت فرج خالية ضائعة. أما تلك البيوت المسدسة فإنه لا يبقى بينها فرج خالية ضائعة. فإهداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الخفية والدقيقة اللطيفة من الأعاجيب".
قوله تعالى: {أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر} هذا إذا لم يكن لها مالك {ومما يعرشون}: قال القرطبي: "جعل الله بيوت النحل في هذه الأنواع الثلاثة إما في الجبال وكواها، وإما في متجوف الأشجار، وإما فيما يعرش لها ابن آدم من الخلايا والحيطان، وعرش هنا: هيأ وأكثر ما يستعمل من إتقان الأغصان والخشب وترتيب ظلالها ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر"... وقال الرازي: "ظاهر قوله تعالى" أن اتخذي من الجبال بيوتاً" أمرٌ وقد اختلفوا فيه، فمن الناس من يقول: لا يبق أن يكون لهذه الحيوانات عقول، ولا يبق أن يتوجب عليها من الله أمر ونهي، وقال آخرون: المراد منه أن الله تعالى خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال. ونلاحظ في خطاب الله تعالى لها استعمال صيغة التأنيث {أن اتخذي} وهذا يتوافق مع ما هو عليه عالم النحل، فغالبية النحل من الإناث، وترأسهم ملكة كما هو معلوم..".
قوله تعالى: {ثم كلي من الثمرات} قال القرطبي: "أن تأكل النوار من الأشجار "فاسلكي سبل ربك ذللاً" أي: طرق ربك، والسبيل: الطريق. وأضافها إليه لأنه خالقها، أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق. {ذللاً} جمع ذلول، وهو المنقاد، أي مطيعة مسخرة".
قال ابن كثير: "المراد بالوحي هنا الإلهام والهداية، والإرشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتاً تأوي إليها، ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديها ورصفها بحيث لا يكون في بيتها خلل ثم أذن لها تعالى إذناً تقديرياً تسخيرياً أن تأكل من كل الثمر،وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها، أي سهلة عليها حيث شاءت من الجو العظيم والبراري الشاسعة والجبال الشاهقة، ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل فتقيئ العسل من فيها وتبيض الفراخ من دبرها ثم تصبح إلى مراعيها".
وفي قوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} قال القرطبي: فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله {يخرج من بطنها شراب} يعني العسل، فقد ورد عن علي عليه السلامأنه قال في تحقيره للدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة "يعني الحرير" وأشرف شرابه رجيع نحلة "يعني العسل".
الثانية: قوله : {مختلف ألوانه} يريد أنواعه من الأحمر والأبيض والأصفر، والجامد والسائل دليل على أن القدرة نوعته بحسب تنويع الغذاء كما يختلف باختلاف المراعي.
الثالثة: قوله: {فيه شفاء للناس} الضمير للعسل، قاله الجمهور. أي في العسل شفاء للناس. وقيل الضمير للقرآن. قال القاضي أبو بكر بن العربي: من قال إنه القرآن بعيد ما أراه يصح عنهم، ولو صح نقلاً لم يصح عقلاً، فإن مساق الكلام كله للعسل.
الرابعة: اختلف العلماء في قوله تعالى {فيه شفاء للناس} هل هو على عمومه أم لا، فقالت طائفة هو على العموم في كل حال ولكل إنسان، فقد روي عن ابن عمر عليه السلامأنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئاً إلا جعل عليه عسلاً، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلاً.
وروي أن عوف بن مالك الأشجعي مرض فقيل له ألا نعالجك؟ فقال: إيتوني بماء فإن الله تعالى قال: {ونزلنا من السماء ماء مباركاً} ثم قال: إيتوني بعسل فإن الله تعالى يقول: {فيه شفاء للناس} ثم قال: إيتوني بزيت فإن الله تعالى يقول: {من شجرة مباكة زيتونة} فجاؤوه بذلك كله فخلطه جميعاً ثم شربه فبرئ.
وقالت طائفة: إن ذلك على الخصوص ولا يقتضي في كل علة وفي كل إنسان بل إنه خبر على أنه يشفى ففائدة الآية إخبار عنه أنه دواء لما كثر الشفاء به، وليس بأول لفظ خصص، فالقرآن مملوء منه، ولغة العرب يأتي فيها العام كثيراً بمعنى الخاص، والخاص بمعنى العام.
الخامسة: الماء حياة كل شيء، وقد رأينا من يقتله الماء إذا أخذه على ما يضاره. وقد رأينا شفاء العسل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حسم الإشكال وأزاح عنه وجه الاحتمال حين أمر الذي يشتكي بطنه بشرب العسل فلما أخبره أخوه بأنه لم يزده إلا استطلاقاً أمره بعود الشراب فبرئ، وقال: صدق الله وكذب بطن أخيك.
السادسة: لسنا نستظهر على قول بيننا بأن يصدقه الأطباء بل لو وكذبوه لكذبناهم وصدقناه صلى الله عليه وسلم .
السابعة: قوله {فيه شفاء للناس} دليل على جواز التعالج بشرب الدواء خلافاً لمن كره ذلك من العلماء.
الثامنة: ذهب مالك وجماعة من أصحابه إلى أن لا زكاة على العسل.
التاسعة: قوله تعالى: {إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} أي يعتبرون، ومن العبرة في النحل بإنصاف النظر وألطاف الفكر في عجيب أمرها، فيشهد اليقين بأن ملهمها الصنعة اللطيفة وحزمها في تفاوت أحوالها هو الله سبحانه وتعالى، يقول العلامة الزجاج [5] في قوله تعالى: {يخرج من بطونها}: "...إلا أنها تلقيه من أفواهها، وإنما قال من بطونها: لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن فيخرج كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم".
وفي تعليقه على آيتي النحل يقول الفخر الرازي: "اعلم أنه تعالى لما بين إخراج الألبان من النعم وإخراج السكر والرزق من ثمرات النخيل والأعناب دلائل قاهرة وبينات باهرة على أن لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً فكذلك إخراج العسل من النحل دليل قاطع وبرهان ساطع على إثبات هذا المقصود".
ولقد دافع عن عمومية شفاء العسل العلامة الشنقيطي [6] في شرحه لحديث "صدق الله وكذب بطن أخيك" فقال: ووجه قوله صلى الله عليه وسلم "صدق الله" هو كون النكرة في قوله {فيه شفاء للناس} للعموم لأنها سيقت للإمتنان، فهي إحدى النكرات الأربع التي تعم، كما نص عليه السيوطي وغيره كالعطار على جمع الجوامع وغير واحد من المحققين مثالها قوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً} وقوله: {فيه شفاء للناس}.
ويرى الدكتور النسيمي أن الآية تفيد أن العسل شفاء لبعض الأمراض... إلا أنه يمكن لفئة خاصة من أهل اليقين والصدق والصفاء أن يستشفوا به لكل علة، ويمكن أن يحدث الشفاء بذلك كرامة أو معونة من الله تعالى لهم، وذلك خصوصية لبعض المتقين لا تعطي حكماً عاماً. ويرى أن لفظ شفاء في الآية الكريمة نكرة، والنكرة في سيقان الثبوت لا تعم كما قال القرطبي، ومع ذلك فإن تنكير شفاء وعدم تعيين الفوائد العلاجية للعسل يحرك همة المؤمنين المختصين أن يجروا التجارب ليكتشفوا المزيد من الفوائد الدالة على عظيم منفعة العسل العلاجية كما يرى النسيمي أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتداويه بالحجامة ووصفه لأدوية أخرى كالحبة السوداء وغيرها يدل على أن العسل ليس شفاء من كل داء كما يرى أن الواقع الطبي العملي لا يشير إلى إمكانية كون العسل أو غيره يمكن أن يكون شفاء لكل داء. كما يؤكد أن التصور العقلي لا يبيح ذلك لوجود أمراض متناقضة كفرط الدرق وقصوره وانخفاض الضغط وارتفاعه وغيرها، فلا يعقل "كما يرى النسيمي" أن يكون العسل سبباً مادياً للشفاء من حالتين متضادتين وبالتالي لا يتصور أن يكون داوء لكل داء.
ويرى الدكتور ظافر العطار أن آية النحل {فيه شفاء للناس} صريحة في عمومها، ولا يرى أي مبرر لتأويلات بعض المفسرين كالسدي وغيره، وهو إن صح عنه يجعل الطب في المقدمة لا الشرع، ويفهم منه أن ما أقرته التجربة يصبح عنده شفاء. ويرد على الدكتور النسيمي بأن تعدد العلاجات النبوية إنما هو رحمة بأمته صلى الله عليه وسلم فعدد لها الدواء، فقد لا يتيسر العسل لبعض الناس فأفسح لهم المجال بتعدد الدواء، لكن هذا لا يعني بحال أن العسل لا يفيد الشقيقة وغيرها، وحول رأي الدكتور النسيمي بعدم تصوره دواء يصلح لحالتين متضادتين يجيب أن العسل منظم للجسم البشري يعيد إليه توازنه الطبيعي وانسجامه كما لا يرضى الدكتور العطار بجعل العسل علاجاً روحياً لأهل الخصوص، فقوله تعالى: {فيه شفاء للناس} وكلمة {ناس} يستوي فيها المسلم والكافر، فكيف بالمؤمن؟!.
ويقف الدكتور حسان شمسي باشا [7] هنا ليتساءل: لماذا قال الله تعالى: {يخرج من بطونها شراب} ولم يذكر صراحة أن العسل هو الذي يخرج من بطون النحل، ويجيب على تساؤله بنقل قول الدكتور البنبي: "فالنحل لا ينتج العسل وحده فحسب، بل إنه ينتج الغذاء الملكي والسم والشمع والعكبر ... وحبوب اللقاح. ولم يذكر القرآن صراحة أن العسل هو الذي يخرج من بطون النحل، أو أنه هو الذي فيه شفاء للناس، لأن الله يخرج من بطون النحل مواد متعددة شافية، لكنها لم تكن معروفة حين نزول القرآن على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ... فكأن هذه الآية الموجزة تتضمن المعنى الذي كان معروفاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عن القيمة العلاجية والمعنى الذي لم يعرف إلا في القرن العشرين عن القيمة العلاجية لسم النحل والغذاء الملكي وغيرهما من منتجات النحل.
ويقف الدكتور حسان شمسي باشا [7] هنا ليتساءل: لماذا قال الله تعالى: {يخرج من بطونها شراب} ولم يذكر صراحة أن العسل هو الذي يخرج من بطون النحل، ويجيب على تساؤله بنقل قول الدكتور البنبي: "فالنحل لا ينتج العسل وحده فحسب، بل إنه ينتج الغذاء الملكي والسم والشمع والعكبر ... وحبوب اللقاح. ولم يذكر القرآن صراحة أن العسل هو الذي يخرج من بطون النحل، أو أنه هو الذي فيه شفاء للناس، لأن الله يخرج من بطون النحل مواد متعددة شافية، لكنها لم تكن معروفة حين نزول القرآن على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ... فكأن هذه الآية الموجزة تتضمن المعنى الذي كان معروفاً في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم عن القيمة العلاجية والمعنى الذي لم يعرف إلا في القرن العشرين عن القيمة العلاجية لسم النحل والغذاء الملكي وغيرهما من منتجات النحل.
ونحن نرى أن الشراب الذي وصفه المولى سبحانه وتعالى في الآية {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} هو العسل حصراً.
فليس لمفسر أن يدلي برأيه بعد أن ثبت في الحديث الصحيح: صدق الله وكذب بطن ابن أخيك، اسقه عسل أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الشراب بالعسل، ثم إن الوصف اللغوي الذي جاءت به الآية أتى بصيغة المفرد ليدل أن الشراب نوع واحد، وإن اختلفت ألوانه، وهذا ينطبق على العسل، ثم إن الشمع ليس بشراب، والغذاء الملكي والعكبر يفرز في فم النحلة ولا يخرج من البطن من الناحية التشريحية وأخيراً فإن سم النحل لو تناوله امرؤ على شكل شراب لفسد في معدته، فهو لا يفيد مطلقاً إذا ما أخذ على شكل شراب.
وهكذا فإن المادة العلاجية القرآنية الوحيدة هي العسل، وهذا لا يعني المواد الأخرى التي تصنعها النحلة ليس فيها شفاء، فقد أشبعنا في كتابنا هذا الخواص العلاجية لهذه المواد دراسة وبحثاً ولكننا لا يمكن أن نضعها ضمن الأدوية القرآنية التي نص القرآن على الاستشفاء بها.
تعليقات
إرسال تعليق